فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{هذانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ}.
مقتضى سياق السورة واتصال آي السورة وتتابعها في النزول أن تكون هذه الآيات متصلة النزول بالآيات التي قبلها فيكون موقع جملة {هذان خصمان} موقع الاستئناف البياني.
لأن قوله: {وكثير حق عليه العذاب} [الحج: 18] يثير سؤال من يسأل عن بعض تفصيل صفة العذاب الذي حقّ على كثير من الناس الذين لم يسجدوا لله تعالى، فجاءت هذه الجملة لتفصيل ذلك، فهي استئناف بياني.
فاسم الإشارة المثنى مشير إلى ما يفيده قوله تعالى: {وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب} [الحج: 18] من انقسام المذكورين إلى فريقين أهل توحيد وأهل شرك كما يقتضيه قوله: {وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب} [الحج: 18] من كون أولئك فريقين: فريق يسجد لله تعالى، وفريق يسجد لغيره. فالإشارة إلى ما يستفاد من الكلام بتنزيله منزلة ما يشاهد بالعين، ومثلها كثير في الكلام.
والاختصام: افتعال من الخصومة، وهي الجدل والاختلاف بالقول يقال: خاصمه واختصما، وهو من الأفعال المقتضية جَانبين فلذلك لم يسمع منه فعل مجرد إلا إذا أريد منه معنى الغلب في الخصومة لأنه بذلك يصير فاعله واحدًا.
وتقدم قوله تعالى: {ولا تكن للخائنين خصيمًا} في [سورة النساء: 105].
واختصام فريقي المؤمنين وغيرهم معلوم عند السامعين قد ملأ الفضاءَ جلبتُه، فالإخبار عن الفريقين بأنهما خصمان مسوق لغير إفادة الخبر بل تمهيدًا للتفصيل في قوله: {فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار}.
فالمراد من هذه الآية ما يعمّ جميع المؤمنين وجميع مخالفيهم في الدّين.
ووقع في الصحيحين عن أبي ذرّ: أنه كان يُقسِم أنَّ هذه الآية: {هذان خصمان اختصموا في ربهم} نزلت في حمزة وصاحبيه علي بن أبي طالب وعتبةَ بن الحارث الذين بارزوا يوم بدر شَيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، والوليدَ بن عتبة.
وفي صحيح البخاري عن علي بن أبي طالب قال: أنا أول من يجثو بين يدي الرحمان للخصومة يوم القيامة.
قال قيس بن عُبادة: وفيهم نزلت {هذان خصمان اختصموا في ربهم}.
قال: هم الذين بارزوا يوم بدر: علي، وحمزة، وعبيدة، وشيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة.
وليس في كلام على أنّ الآية نزلت في يوم بدر ولَكِن ذلك مدرج من كلام قيس بن عُبادة، وعليه فهذه الآية مدنيّة فتكون {هذان} إشارة إلى فريقين حاضرين في أذهان المخاطبين فنُزّل حضورُ قصتهما العجيبة في الأذهان منزلة المشاهدة حتى أعيد عليها اسم الإشارة الموضوع للمشاهد، وهو استعمال في كلام البُلغاء، ومنه قول الأحنف بن قيس: خرجتُ لأنصر هذا الرجل يريد علي بن أبي طالب في قصة صفّين.
والأظهر أن أبا ذر عنى بنزول الآية في هؤلاء أن أولئك النفر الستة هم أبرز مثال وأشهر فرد في هذا العموم، فعبر بالنزول وهو يريد أنهم ممن يقصد من معنى الآية.
ومثل هذا كثير في كلام المتقدمين.
والاختصام على الوجه الأول حقيقي وعلى الوجه الثاني أطلق الاختصام على المبارزة مجازًا مرسلًا لأن الاختصام في الدين هو سبب تلك المبارزة.
واسم الخصم يطلق على الواحد وعلى الجماعة إذا اتحدت خصومتهم كما في قوله تعالى: {وهل أتاك نبأ الخصم إذا تسوروا المحراب} [ص: 21] فلمراعاة تثنية اللفظ أتي باسم الإشارة الموضوع للمثنى ولمراعاة العدد أتي بضمير الجماعة في قوله تعالى: {اختصموا في ربهم}.
ومعنى {في ربهم} في شأنه وصفاته، فالكلام على حذف مضاف ظاهر.
وقرأ الجمهور {هذان} بتخفيف النون، وقرأه ابن كثير بتشديد النون وهما لغتان.
والتقطيع: مبالغة القطع، وهو فصل بعض أجزاء شيء عن بقيته.
والمراد: قطع شُقّة الثوب.
وذلك أنّ الذي يريد اتخاذ قميص أو نحوه يقطع من شقة الثوب ما يكفي كما يريده، فصيغت صيغة الشدة في القطع للإشارة إلى السرعة في إعداد ذلك لهم فيجعل لهم ثياب من نار.
والثياب من النار ثياب محرقة للجلود وذلك من شؤون الآخرة.
والحميم: الماء الشديد الحرارة.
والإصهار: الإذابة بالنار أو بحرارة الشمس، يقال: أصْهره وصهّره.
وما في بطونهم: أمعاؤهم، أي هو شديد في النفاذ إلى باطنهم.
والمقامع: جمع مِقمعة بكسر الميم بصِيغة اسم آلة القَمع.
والقمع: الكف عن شيء بعنف.
والمقمعة: السوط، أي يُضربون بسياط من حديد.
ومعنى {كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها} أنهم لشدة ما يغمهم، أي يمنعهم من التنفس، يحاولون الخروج فيُعَادون فيها فيحصل لهم ألم الخيبة، ويقال لهم: ذوقوا عذاب الحريق.
والحريق: النار الضخمة المنتشرة.
وهذا القول إهانة لهم فإنهم قد علموا أنهم يذوقونه. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {فالذين كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارِ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الحميم يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ والجلود وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ}.
ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة، من أنواع عذاب أهل النار، أعاذنا الله وإخواننا المسلمين منها، ومن كل ما قرب إليها من قول وعمل، وجاء مبينًا في آيات أخر من كتاب الله، فقوله هنا {قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارِ} أي قطع الله لهم من النار ثيابًا، وألبسهم إياها تنقد عليهم كقوله فيهم {سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ} [إبراهيم: 50] والسرابيل: هي الثياب التي هي القمص، كما قدمنا إيضاحه، وكقوله: {} [الأعراف: 41] والغواشي: جمع غاشية: وهي غطاء كاللحاف، وذلك هو معنى قوله هنا {قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارِ} وقوله تعالى: هنا {يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الحميم} ذكره أيضًا في غير هذا الموضع كقوله: {ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الحميم ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 48- 49] والحميم: الماء البالغ شدة الحرارة، وكقوله تعالى: {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَاءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه} [الكهف: 29] الآية. وقوله هنا {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ} أي يذاب بذلك الحميم، إذا سقوه فوصل إلى بطونهم، كل ما في بطونهم من الشحم والأمعاء وغير ذلك، كقوله تعالى: {وَسُقُواْ مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد: 15] والعرب تقول: صهرت الشيء فانصهر، فهو صهير: أي أذبته فذاب، ومنه قول ابن أحمر يصف تغذية قطاة لفرخها في فلاة من الأرض:
تروي لقي ألْقى في صَفْصَفٍ ** تَصْهره الشَّمْس فما يَنْصَهِرْ

أي تذيبه الشمس، فيصبر على ذلك، ولا يذوب، وقوله: والجلود الظاهر أنه معطوف على ما من قوله: {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ} التي هي نائب فاعل يصهر، وعلى هذا الظاهر المتبادر من الآية، فذلك الحميم يذيب جلودهم، كما يذيب ما في بطونهم. لشدة حرارته.
إذ المعنى: يصهر به ما في بطونهم، وتصهر به الجلود. أي جلودهم، فالألف واللام قامتا مقام الإضافة، وقال بعض أهل العلم: والجلود مرفوع بفعل محذوف معطوف على تصهر، وتقديره: وتحرق به الجلود، ونظير ذلك في تقدير العامل المحذوف الرافع الباقي معموله مرفوعًا بعد الواو قول لبيد في معلقته:
فعلا فروعُ الأَيْهقَانِ وأطفَلت ** بالْجَلهَتَيْنِ ظباؤُهَا ونَعامُهَا

يعني: وباض نعامها، لأن النعامة لا تلد الطفل، وإنما تبيض، بخلاف الظبية فهي تلد الطفل، ومثاله في المنصوب قول الآخر:
إذا ما الغانياتُ برزْنَ يوما ** وزجَّجْنَ الحواجِبَ والعُيونا

ترى منَّا الأيور إذا رأَوْهَا ** قِيامًا راكِعيِنَ وساجِدينا

يعني زججن الحواجب، وأكحلن العيون وقوله:
ورَأيْت زوجَك في الوَغَى ** متقلِّدًا سيفًا ورمْحًا

أي وحاملًا رمحًا، لأن الرمح لا يتقلد، وقول الآخر:
تراه كأن الله يدعُ أنفَه ** وعينيه إنْ مولاه ثَابَ له وفْر

يعني: ويفقأ عينيه، ومن شواهده المشهورة قول الراجز.
علَفْتها تِبنًا وماءً باردًا ** حتى شتت همالةً عيناها

يعني: وسقيتها ماء باردًا، ومن أمثلة ذلك في القرآن قوله تعالى: {والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان} [الحشر: 9] الآية: أي وأخلصوا الإيمان، أو ألفوا الإيمان، ومثال ذلك في المخفوض قولهم: ما كل بيضاء شحمة، ولا سوداء تمرة: أي ولا كل سوداء تمرة، وإلى هذه المسألة أشار في الخلاصة بقوله:
وهي انفردت...
بعطف عامل مُزال قَدْ بَقي ** معمولُه دفعًا لوهْمٍ اتُّقى

وقوله تعالى: في هذه الآية الكريمة {وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} المقامع: جمع مقمعة بكسر الميم الأولى، وفتح الميم الأخيرة، ويقال: مقمع بلا هاء، وهو في اللغة: حديدة كالمحجن يضرب بها على رأس الفيل: وهي في الآية مرزاب عظيمة من حديد تضرب بها خزنة النار رؤوس أهل النار، وقال بعض أهل العلم: المقامع: سياط من نار، ولا شك أن المقامع المذكورة في الآية من الحديد لتصريحه تعالى بذلك، وقوله تعالى: {هذان خَصْمَانِ اختصموا فِي رَبِّهِمْ فالذين كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّار} [الحج: 19] الآية نزل في المبارزين يوم بدر، وهم: حمزة بن عبدالمطلب، وعلي بن أبي طالب، وعبيدة بن الحارث بن المطلب، وفي أقرأنهم المبارزين من الكفار وهم: عتبة بن ربيعة، وابنه الوليد بن عتبة، وأخوه شيبة بن ربيعة، كما ثبت في الصحيحين، وغيرهما.
{كُلَّمَا أرادوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)}.
ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة: من أن أهل النار كلما أرادوا الخروج منها، لما يصيبهم من الغم فيها عياذًا بالله منها، أعيدوا فيها، ومنعوا من الخروج منها بينه في غير هذا الموضع، كقوله في المائدة {إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأرض جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ القيامة مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النار وما هم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} [المائدة: 36- 37] وقوله في السجدة {كُلَّمَا أرادوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَا أُعِيدُواْ فِيهَا} [السجدة: 20] الآية، وقوله في آية الحج هذه {وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق} حذف فيه القول.
والمعنى: أعيدوا فيها، وقيل لهم ذوقوا عذاب الحريق، وهذا القول المحذوف في الحج صرح به في السجدة في قوله تعالى: {كُلَّمَا أرادوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَا أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النار الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السجدة: 20] والمفسرون يقولون: إن لهب النار يرفعهم، حتى يكاد يرميهم خارجها، فتضربهم خزنة النار بمقامع الحديد، فتردهم في قعرها، نعوذ بالله منها، ومن كل ما يقرب إليها من قول وعمل. اهـ.

.قال الشعراوي:

{هذانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ}.
كلمة خَصْم من الألفاظ التي يستوي فيها المفرد والمثنى والجمع، وكذلك المذكر والمؤنث كما في قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخصم إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب} [ص: 21].
ويقول تعالى: {خَصْمَانِ بغى بَعْضُنَا على بَعْضٍ } [ص: 22].
والمراد بقوله: {خَصْمَانِ } [الحج: 19] قوله تعالى: {وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب } [الحج: 18] والخصومة تحتاج إلى فَصْل بين المتخاصمين، والفَصْل يحتاج إلى شهود، لَكِن إنْ جاء الفَصْل من الله تعالى فلن يحتاج إلى شهود {وكفى بالله شَهِيدًا } [النساء: 79]
وإنْ جاء عليهم بشهود من أنفسهم، فإنما لإقامة الحجة ولتقريعهم، يقول تعالى: {وَقالواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } [فصلت: 21].
فإنْ قلتَ: كيف تشهد الجوارح على صاحبها يوم القيامة وهي التي فعلت؟
نقول: هناك فَرْق بين عمل أريده وعمل أؤديه، وأنا أبغضه وضربنا لذلك مثلًا- ولله المثل الأعلى- بالقائد الذي يأمر جنوده، وعليهم أنْ يُطيعوه حتى إنْ كانت الأوامر خاطئة، فإنْ رجعوا إلى القائد الأعلى حكَوْا له مَا كان من قائدهم؛ ذلك لأن القائد الأعلى جعل له ولاية عليهم، وألزمهم طاعته والائتمار بأمره.
فالخالق-عز وجل- جعل لأرادة الإنسان ولاية على جوارحه، فالفعل- إذن- للأرادة، وما الجوارح إلا أداة للتنفيذ. فحينما تريد مثلًا أنْ تقوم، مجرد أن تريد ذلك تجد نفسك قائمًا دون أنْ تفكر في حركة القيام أو العضلات التي تحركتْ لتؤدي هذا العمل، مع أنها عملية مُعقَّدة تتضافر فيها الأرادة والعقل والأعصاب والأعضاء، وأنت نفسك لا تشعر بشيء من هذا كله، وهل في قيامك أمرتَ الجوارح أنْ تتحرَّك فتحركتْ؟
فإذا كانت جوارحك تنفعل لك وتطاوعك لمجرد الأرادة، أفلا يكون أوْلى من هذا أنْ ينفعل خَلْق الله لأرادة الله؟
إذن: العمدة في الأفعال ليستْ الجوارح وإنما الأرادة، بدليل أن الله تعالى إذا أراد أنْ يُعطِّل جارحة من الجوارح عطّل الأرادة الآمرة، وقطعها عن الجارحة، فإذا هي مشلولة لا حركةَ فيها، فإنْ أراد الإنسان تحريكها بعد ذلك فلن يستطيع، لماذا؟
لأنه لا يعلم الأبعاض التي تُحرِّك هذه الجارحة، ولو سألتَ أعلم الناس في علم الحركة والذين صنعوا الإنسان الآلي: ما الحركة الآلية التي تتم في جسم الإنسان كي يقوم من نومه أو من جِلْسته؟ ولن يستطيع أحد أنْ يصفَ لك ما يتم بداخل الجسم في هذه المسألة.
أما لو نظرتَ مثلًا إلى الحفَّار، وهو يُؤدِّي حركات أشبه بحركات الجسم البشري لوجدتَ صبيًّا يشغله باستخدام بعض الأزرار، ويستطيع أنْ يصِفَ لك كل حركة فيه، وما الآلات التي تشترك في كل حركة. فَقُلْ لي بالله: ما الزر الذي تضغط عليه لتحرك يدك أو ذراعك؟ ما الزر الذي تُحرِّك به عينيك، أو لسانك، أو قدمك؟ إنها مجرد أرادة منك فينفعل لك ما تريد؛ لأن الله تعالى خلقك، وجعل لأرادتك السيطرة الكاملة على جوارحك، فلا تستبعد أنْ تنفعل المخلوقات لله-عز وجل- إنْ أراد منها أنْ تفعلَ.
حتى العذاب في الآخرة ليس لهذه الجوارح والأبعاض، إنما العذاب للنفس الواعية، بدليل أن الإنسان إذا تعرَّض لألم شديد لا يسترىح منه لا أنْ ينام، فإذا استيقظ عاوده الألم، إذن: فالنفس هي التي تألم وتتعذَّب لا الجوارح.
والحق سبحانه هو الذي يفصل بين هذيْن الخصميْن، كما قال سبحانه في آية أخرى {إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة } [الحج: 17].